عودة ترامب- الاقتصاد والهجرة والسلام العالمي حسموا الانتخابات الأميركية.

في صباح يوم الأربعاء الموافق السادس من نوفمبر/تشرين الثاني، استيقظت الولايات المتحدة والعالم بأسره على وقع مفاجأة مدوية: تحقيق الرئيس الأسبق دونالد ترامب فوزًا كاسحًا في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعودته المظفرة إلى سدة الحكم في البيت الأبيض اعتبارًا من العشرين من يناير/كانون الثاني القادم. هذا الحدث سيشكل منعطفًا حاسمًا في تاريخ الولايات المتحدة والعالم أجمع، ولا يمكن التكهن في الوقت الراهن بآثاره، سواء كانت إيجابية أم سلبية.
لقد بذل الحزب الديمقراطي الأميركي جهودًا مضنية، واستخدم شتى الوسائل المتاحة، في محاولة لإعاقة صعود ترامب السياسي ومنعه من العودة إلى البيت الأبيض مرة أخرى. تارةً، سعى الحزب إلى اتهام الرئيس ترامب بانتهاك الدستور الأميركي مرتين في مجلس النواب، قبل أن تفشل محاولات إدانته في مجلس الشيوخ الأميركي. وتارة أخرى، لجأ الحزب إلى الملاحقات القضائية التي أفضت إلى إدانة ترامب في عدد من القضايا، ليصبح بذلك أول رئيس أميركي سابق يُدان قضائيًا في المحاكم الأميركية.
لقد كان ترامب شخصية غير تقليدية في عالم السياسة الأميركية، فقد كسر الأعراف والتقاليد المألوفة للمرشحين الرئاسيين، سواء من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.
بينما نجح ترامب ببراعة في استغلال مشاعر الخوف والغضب التي تملكت قلوب الكثير من الناخبين الأميركيين إزاء قضايا جوهرية مثل الاقتصاد، والهجرة غير الشرعية، والأمن والسلم العالميين، أخفقت حملة هاريس في معالجة هذه القضايا بطريقة تبدد المخاوف وتخفف من حدة الغضب الأميركي تجاه مستقبل البلاد.
لقد راهنت هاريس رهانًا خاسرًا على إقناع الناخب الأميركي بأن ترامب، الذي أدانته المحاكم الأميركية ووُجهت إليه اتهامات بخرق الدستور في مجلس النواب، يشكل خطرًا داهمًا على الديمقراطية الأميركية.
في المقابل، ركزت الدعاية الانتخابية لترامب بشكل صريح على القضايا الملحة التي تواجه الشعب الأميركي، وعلى رؤية الكثيرين الذين، رغم استيائهم من سلوكه الشخصي، يرون أنه الأقدر على إيجاد حلول لهذه المشكلات.
"الاقتصاد، أيها الغبي!" تتردد مرة أخرى
جاءت هزيمة هاريس المدوية لتُعيد إلى الأذهان العبارة الشهيرة التي أطلقها جيمس كارفيل، المدير البارز لحملة كلينتون الانتخابية عام 1992، والتي أصبحت شعارًا للحملة: "إنها مشكلة الاقتصاد، أيها الغبي!". بفضل هذه الاستراتيجية، حقق كلينتون فوزًا ساحقًا على الرئيس جورج بوش الأب، رغم شعبيته الجارفة التي اكتسبها بعد انتصاره في حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت من براثن قوات الرئيس العراقي صدام حسين عام 1991.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن قضية الاقتصاد الأميركي، والمعاناة المعيشية التي يواجهها معظم أفراد المجتمع الأميركي، كانت من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فوز ترامب.
ومن اللافت للنظر أن الاقتصاد الأميركي قد نجح في تجاوز تداعيات أزمة (COVID-19) الصحية العالمية، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تسببت فيها، وذلك بفضل السياسات الاقتصادية التي اتخذتها إدارة بايدن، وتحفيزها للاقتصاد الأميركي، ودعمها للأسر الفقيرة، وخاصة الأسر ذات الدخل المحدود التي تعول عددًا من الأطفال.
إلا أن معدلات التضخم المرتفعة للغاية، والتي لم تشهدها الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، أثرت بشكل كبير على ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأميركية، وهو ما لم يعتده المستهلك الأميركي من قبل.
كما أن ارتفاع معدلات الفائدة، وخاصة فيما يتعلق بالرهون العقارية، أدى إلى عزوف الملايين عن تحقيق "الحلم الأميركي" بامتلاك منزل لأسرهم، مما اضطرهم إلى مواجهة الارتفاع الجنوني في أسعار إيجار العقارات والشقق السكنية.
لم تنجح معدلات النمو الاقتصادي الإيجابية ولا معدلات نمو الوظائف المرتفعة في عهد بايدن في إقناع الناخب الأميركي بتحسن الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وذلك بسبب المعاناة اليومية التي يشعر بها الناخب الأميركي في سبيل تلبية احتياجاته المادية الأساسية.
ومن المفارقات العجيبة أن ترامب سيرث اقتصادًا قويًا بدأ يتعافى من معدلات التضخم المرتفعة، وذلك بفضل السياسات التي اتبعتها إدارة بايدن الحالية، والتي لم يكافئه عليها الناخب الأميركي في هذه الانتخابات.
قضية الهجرة غير الشرعية تتفاقم
يدرك الأميركيون بشكل عام مدى تفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية عبر الحدود البرية الطويلة مع المكسيك. فعلى سبيل المثال، وصل إلى الولايات المتحدة أكثر من 10 ملايين مهاجر غير شرعي خلال فترة حكم الرئيس بايدن، مقارنة بحوالي 2 مليون في عهد الرئيس ترامب.
لقد جعل ترامب من قضية مكافحة الهجرة غير الشرعية وبناء جدار حدودي عازل مع المكسيك، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، قضية محورية في جميع حملاته الانتخابية في الأعوام 2016 و2020 و2024.
في المقابل، تجاهل الديمقراطيون معالجة قضايا الهجرة غير الشرعية والحدود المفتوحة، وعدم إكمال الجدار الحدودي الذي بدأه ترامب، وكذلك معالجة طلبات اللجوء السياسي عند الحدود المكسيكية.
لم يتحرك الديمقراطيون في قضية الهجرة غير الشرعية إلا مع اقتراب موسم الانتخابات الأميركية، عندما حاولوا تمرير تشريع لمواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة، بمساعدة الجمهوريين في الكونغرس، إلا أن ترامب كان أكثر دهاءً حين ضغط على أعضاء حزبه لإفشال هذا المشروع التشريعي، حتى يتحمل الديمقراطيون تبعات سياستهم في هذا المجال في هذه الانتخابات.
حاولت حملة هاريس عبثًا اتهام ترامب بالعنصرية والسخرية من الأقلية اللاتينية في أميركا لكسب أصواتهم، لكنها فشلت في استقطاب أصوات الرجال من هذه الأقلية. وفي محاولة يائسة، توقع بعض المحللين السياسيين نجاحها في ربط نكتة أطلقها كوميدي ساخر غير معروف بشأن جزيرة بورتوريكو، لتذكير الناخبين من أصول لاتينية في ولاية بنسلفانيا وغيرها باحتقار ترامب لخلفيتهم العرقية.
لقد خسرت هاريس ولايات "الجدار الأزرق" التي تتمتع بولاء عميق للحزب الديمقراطي، مثل بنسلفانيا وميشيغان، بسبب فشلها في حشد دعم الأقليات اللاتينية فيها، حتى فيما يتعلق بقضايا الهجرة.
قضية النزاعات والسلام العالمي تتصدر الاهتمام
لطالما حذر ترامب من مخاطر اندلاع حرب عالمية ثالثة في حال فوز هاريس، وذلك لكونها امتدادًا لسياسات بايدن في العلاقات الدولية وتشجيعها للحروب في أوكرانيا وغيرها.
زعم ترامب مرارًا أن مثل هذه الحروب لم تكن لتحدث في عهده، وذلك لما يكنه قادة العالم من احترام وتقدير لشخصه. كما تفاخر بكونه أول رئيس أميركي في العصر الحديث لم يرسل الجنود الأميركيين لخوض حروب جديدة.
أثرت حرب غزة الدامية وعجز إدارة بايدن وهاريس عن إيقافها في فقدان العرب والمسلمين الأميركيين تعاطفهم ودعمهم لهاريس في ولايات انتخابية متأرجحة مثل ميشيغان.
أعلن عمدة مدينة هامترامك في ميشيغان، وهو أميركي من أصل يمني، دعمه لحملة ترامب، لأنه -حسب زعمه- سيجلب السلام في الشرق الأوسط. وفي المقابل، كانت كامالا هاريس تصطحب معها النائبة الجمهورية السابقة ليز تشيني، إحدى أكبر المنتقدين الجمهوريين لترامب، مما جعل الأخير يستغل هذه العلاقة بين هاريس وتشيني، ليذكر الناخبين المسلمين والعرب بتاريخ والد الأخيرة، "ديك تشيني" نائب الرئيس السابق جورج بوش الابن، في غزو وتدمير بلدين مسلمين هما أفغانستان والعراق.
تردد بايدن في الاعتزال يثير التساؤلات
تظل كيفية ترشح هاريس للانتخابات سببًا جوهريًا آخر يضاف إلى الأسباب السابقة. فبينما حسم الحزب الجمهوري مرشحه للرئاسة باختيار ترامب في الانتخابات الأولية، أصر بايدن على خوض الانتخابات الأولية وفاز بها دون منافسة حقيقية، قبل أن يقرر متأخرًا الاعتزال قبيل انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي العام، وذلك نتيجة لأدائه المتواضع في المناظرة الرئاسية مع ترامب.
لم تتح لهاريس سوى ثلاثة أشهر لإدارة حملة انتخابية، في حين يحتاج المرشحون للرئاسة عادةً لعامين على الأقل لتأسيسها. ورثت هاريس حملة بايدن الانتخابية، ورغم الدعم المالي الهائل الذي تدفق عليها، فقد فشلت في النأي بنفسها عن سياسات بايدن الداخلية والخارجية.
لقد فاز ترامب في هذه الانتخابات ليس بالضرورة لحب الأميركيين لشخصيته، وإنما لقناعتهم بأن فوز هاريس يعني استمرار سياسات بايدن لمدة أربع سنوات أخرى.